فصل: قال السمرقندي: في الآيات السابقة:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال ابن عطية في الآيات السابقة:

{إِذَا زُلْزِلَتِ الْأَرْضُ زِلْزَالَهَا (1)}
العامل في: {إذا} على قول جمهور النحاة وهو الذي يقتضيه القياس فعل مضمر يقتضيه المعنى وتقديره: تحشرون أو تجازون، ونحو هذا، ويمتنع أن يعمل فيه {زلزلت} لأن {إذا} مضافة إلى {زلزلت}، ومعنى الشرط فيها ضعيف وقال بعض النحويين: يجوز أن يعمل فيها {زلزلت}، لأن معنى الشرط لا يفارقها، وقد تقدمت نظائرها في غير سورة، و{زلزلت} معناه: حركت بعنف، ومنه الزلزال، وقوله تعالى: {زلزالها} أبلغ من قوله: زلزال، دون إضافة إليها، وذلك أن المصدر غير مضاف يقع على كل قدر من الزلزال وإن قل، وإذا أضيفت إليها وجب أن يكون على قدر ما يستحقه ويستوجبه جرمها وعظمها، وهكذا كما تقول: أكرمت زيدًا كرامة فذلك يقع على كل كرامة وإن قلت بحسب زيد، فإذا قلت كرامته أوجبت أنك قد وفيت حقه.
وقرأ الجمهور: {زِلزالها} بكسر الزاي الأولى.
وقرأ بفتحها عاصم الجحدري، وهو أيضًا مصدر كالوسواس وغيره. و(الأثقال): الموتى الذين في بطنها قاله ابن عباس، وهذه إشارة إلى البعث، وقال قوم من المفسرين منهم منذر بن سعيد الزجاج والنقاش: أخرجت موتاها وكنوزها.
قال القاضي أبو محمد: وليست القيامة موطنًا لإخراج الكنوز، وإنما تخرج كنوزها وقت الدجال، و(قول الإنسان ما لها) هو قول على معنى التعجب من هول ما يرى، قال جمهور المفسرين: {الإنسان} هنا يراد به الكافر، هذا متمكن لأنه يرى ما لم يظن به قط ولا صدقه، وقال بعض المتأولين هو عام في المؤمن والكافر، فالكافر على ما قدمناه، والمؤمن وإن كان قد آمن بالبعث فإنه استهول المرأى، وقد قال صلى الله عليه وسلم: «ليس الخبر كالمعاينة» و(أخبار الأرض) قال ابن مسعود والثوري والثوري وغيره: هو شهادتهما بما عمل عليها من عمل صالح أو فاسد، فالحديث علي هذا حقيقة، والكلام بإدراك وحياة يخلقها الله تعالى، وأضاف الأخبار إليها من حيث وعتها وحصلتها، وانتزع بعض العلماء من قوله تعالى: {تحدث أخبارها} أن قول المحدث: حدثنا وأخبرنا سواء، وقال الطبري وقوم: التحديث في الآية مجاز، والمعنى أن تفعله بأمر الله من إخراج أثقالها وتفتت أجزائها وسائر أحوالها هو بمنزلة التحديث بأنبائها وأخبارها، ويؤيد القول الأول قول النبي صلى الله عليه وسلم: «فإنه لا يسمع مدى صوت المؤذن جن ولا إنس ولا شيء، إلا شهد له يوم القيامة».
وقرأ عبد الله بن مسعود: {تنبئ أخبارها}.
وقرأ سعيد بن جبير: {تبين} وقوله تعالى: {بأن ربك أوحى لها} الباء باء السبب، وقال ابن عباس وابن زيد والقرظي المعنى: {أوحى لها}، وهذا الوحي على هذا التأويل يحتمل أن يكون وحي إلهام، ويحتمل أن يكون وحيًا برسول من الملائكة، وقد قال الشاعر:
أوحى لها القرار فاستقرت ** وشدها بالراسيات الثبت

والوحي في كلام العرب إلقاء المعنى إلقاء خفيًا، وقال بعض المتأولين: {أوحى لها} معناه: {أوحى} إلى ملائكته المصرفين أن تفعل في الأرض تلك الأفعال، وقوله تعالى: {لها} بمعنى: من أجلها ومن حيث الأفعال فيها فهي لها، وقوله تعالى: {يومئذ يصدر الناس أشتاتًا} بمعنى: يتصرفون موضع وردهم مختلفي الأحوال وواحد الأشتات: شت، فقال جمهور الناس: الورد، هو الكون في الأرض بالموت والدفن، والصدر: هو القيام للبعث، و{أشتاتًا}: معناه: قوم مؤمنون وقوم كافرون، وقوم عصاة مؤمنون، والكل سائر إلى العرض ليرى عمله، ويقف عليه، وقال النقاش: الورد هو ورد المحشر، والصدر {أشتاتًا}: هو صدر قوم إلى الجنة، وقوم إلى النار، وقوله تعالى: {ليروا أعمالهم} إما أن يكون معناه جزاء أعمالهم يراه أهل الجنة من نعيم وأهل النار بالعذاب، وإما أن يكون قوله تعالى: {ليروا أعمالهم} متعلقا بقوله: {بإن ربك أوحى لها}، ويكون قوله: {يومئذ يصدر الناس أشتاتًا} اعتراضًا بين أثناء الكلام.
وقرأ جمهور الناس: {ليُروا}، بضم الياء على بناء الفاعل للمفعول.
وقرأ الحسن والأعرج وحماد بن سلمة والزهري وأبو حيوة: {ليَروا} بفتح الياء على بنائه للفاعل، ثم أخبر تعالى أنه من عمل عملًا رآه قليلًا كان أو كثيرًا، فخرجت العبارة عن ذلك بمثال التقليل، وهذا هو الذي يسميه أهل الكلام مفهوم الخطاب، وهو أن يكون المذكور والمسكوت عنه في حكم واحد، ومنه قوله تعالى: {فلا تقل لهما أف} [الإسراء: 23]، وهذا كثير، وقال ابن عباس وبعض المفسرين: رؤية هذه الأعمال هي في الآخرة، وذلك لازم من لفظ السورة وسردها، فيرى الخير كله من كان مؤمنًا، والكافر لا يرى في الآخرة خيرًا، لأن خيره قد عجل له في الدنيا، وكذلك المؤمن أيضًا تعجل له سيئاته الصغار في دنياه في المصائب والأمراض ونحوها فيجيء من مجموع هذا أن من عمل من المؤمنين {مثقال ذرة} من خير أو شر رآه، ويخرج من ذلك أن لا يرى الكافر خيرًا في الآخرة، ومنه حديث عائشة رضي الله عنها، قالت: قلت يا رسول الله: أرأيت ما كان عبد الله بن جدعان يفعله نم البر وصلة الرحم وإطعام الطعام، ألَهُ في ذلك أجر؟ قال: «لا، لأنه لم يقل قط رب اغفر لي خطيئتي يوم الدين» وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم، يسمي هذه الآية الجامعة الفادة، وقد نص على ذلك حين سئل عن الحمر الحديث، وأعطى سعد بن أبي وقاص سائلًا ثمرتين فقبض السائل يده فقال له سعد: ما هذا؟ إن الله تعالى قبل منا مثاقيل الذر وفعلت نحو هذا عائشة في حبة عنب وسمع هذه الآية صعصعة بن عقال التيمي عند النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: حسبي لا أبالي أن لا أسمع غيرها، وسمعها رجل عند الحسن، فقال: انتهت الموعظة، فقال الحسن: فقه الرجل.
وقرأ هشام عن ابن عامر وأبو بكر عن عاصم: {يره}، بسكون الهاء في الأولى والأخيرة.
وقرأ ابن كثير وابن عامر وحفص عن عاصم وحمزة والكسائي ونافع فيما روى عنه ورش والحلواني عن قالون عنه في الأولى {ير هو} وأما الآخرة فإنه سكون وقف، وأما من أسكن الأولى فهي على لغة من يخفف أمثال هذا ومنه قول الشاعر:
ونضواي مشتاقان له أرقان

وهذه على لغة لم يحكها سيبويه لكن حكاها الأخفش وقرأ أبو عمرو {يره} بضم الهاء فيهما مشبعتان وقرأ أبان عن عاصم وابن عباس وأبو حيوة وحميد بن الربيع عن الكسائي {يره} بضم الياء وهي رؤية بصره بمعنى يجعل يدركه ببصره والمعنى يرى جزاءه وثوابه لأن الأعمال الماضية لا ترى بعين أبدا وهذا الفعل كله هو من رأيت بمعنى أدركت ببصري فتعديه إنما هو إلى مفعول واحد وقرأ عكرمة: {خيرا يراه} و{شرا يراه} وقال النقاش ليست برؤية بصر وانما المعنى يصيبه ويناله ويروى ان هذه السورة نزلت وأبو بكر ياكل مع النبي صلى الله عليه وسلم فترك أبو بكر الأكل وبكى فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم ما يبكيك فقال يا رسول الله أو أسأل عن مثاقيل الذر فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يا أبا بكر ما رأيت في الدنيا مما تكره فمثاقيل ذر الشر ويدخر الله لك مثاقيل ذر الخير إلى الأخرة» و{الذرة} نملة صغيرة حمراء رقيقة لا يرجح لها ميزان ويقال إنها تجري إذا مضى لها حول وقد تؤول ذلك في قول امرئ القيس:
من القاصرات الطرف لو دب محول ** من الذر فوق الإتب منها لأثرا

وحكى النقاش انهم قالوا كان بالمدينة رجلان أحدهما لا يبالي عن الصغائر يرتكبها وكان الآخر يريد ان يتصدق فلا يجد الا اليسير فيستحيي من الصدقة فنزلت الآية فيهما كانه يقال لأحدهما تصدق باليسير فإن مثقال ذرة الخير ترى وقيل للآخر كف عن الصغائر فإن مقادير ذر الشر ترى نجز تفسيرها والحمد لله كثيرا. اهـ.

.قال أبو السعود في الآيات السابقة:

{إِذَا زُلْزِلَتِ الأرض}
أَيْ حُرِّكتْ تحريكًا عنيفًا مُتكررًا متداركًا {زِلْزَالَهَا} أي الزلزالُ المخصوصُ بَها عَلَى مُقْتصى المشيئةِ الإلهيةِ المبنيةِ على الحكمِ البالغةِ وهُو الزلزالُ الشديدُ الذي لا غايةَ وراءَهُ أو زلزالُها العجيبُ الذي لا يُقَادرُ قدرُهُ أو زلزالُها الداخلُ في حيزِ الإمكانِ وقرئ بفتحِ الزَّاي وهو اسمٌ وليسَ في الأبنيةِ فعلالٌ بالفتحِ إلا في المضاعفِ وقولهم خَزْعَالٌ نادرٌ وقَدْ قيلَ: الزلزالُ بالفتحِ أيضًا مصدرٌ كالوَسواسِ والجرَجارِ والقَلقال وذلكَ عندَ النفخةِ الثانيةِ لقوله عز وجل: {وَأَخْرَجَتِ الأرض أَثْقالهَا} أي ما في جَوْفها من الأمواتِ والدفائنِ جمعُ ثَقَلٍ وهُو متاعُ البيتِ وإظهارُ الأرضِ في موقعِ الإضمارِ لزيادةِ التقريرِ أوْ للإيماءِ إلى تبدلِ الأرضِ غيرَ الأرضِ أو لأنَّ إخراجَ الأثقال حالُ بعضِ أجزائِها {وَقال الإنسان} أيْ كُلُّ فردٍ من أفرادِه لما يَدهمُهْم منَ الطامَّةِ التامَّةِ ويبهرهُم مِنَ الدَّاهيةِ العامَّةِ {مَا لَهَا} زُلزلتْ هذهِ المرتبةَ الشديدةَ منَ الزلزالِ وأخرجتْ ما فيَها منَ الأثقال استعظامًا لما شاهدُوه منَ الأمر الهائلِ وقد سيرتِ الجبالُ في الجَوِّ وصيرتْ هباءً وقيلَ: هُو قول الكافرِ إذْ لمْ يكُنْ مؤمنًا بالبعثِ والأظهرُ هُو الأولُ عَلى أنَّ المؤمنَ يقوله بطريقِ الاستعظامُ والكافرُ بطريق التعجبِ {يَوْمَئِذٍ} بدلٌ منْ إِذا وقوله تعالى: {تُحَدّثُ أَخْبَارَهَا} عَامِلٌ فيهمَا ويجوزُ أن يكونَ إذَا منتصبًا بمضمرٍ أيْ يومُ إذْ زلزلتْ الأرضُ تحدثُ الخلق أخبارِها إمَّا بلسانِ الحالِ حيثُ تدلُّ دلالةً ظاهرةً على ما لأجلِه زلزالُها وإخراجُ أثقالها وإما بلسانِ المقال حيثُ ينطقُها الله تعالى فتخبرُ بما عُمِلَ عليَها منْ خيرٍ وشرَ ورُوِيَ عنِ النبيِّ صلى الله عليه وسلم: «أنها تشهدُ على كُلِّ أحد بما عَمِلَ عَلى ظَهرِهَا» وقرئ {تنبئُ أخبارَها} وقرئ {تنبئُ} منَ الإنباءِ.
{بِأَنَّ رَبَّكَ أوحى لَهَا} أي تحدثُ أخبارَهَا بسببِ إيحاءِ ربِّكَ لَها وَأمرهِ إيَّاهَا بالتَّحديث علي أحد الوجهينِ وَيَجُوزُ أَنْ يكُونَ بَدَلًا مِنْ أَخْبَارِهَا كَأنَّه قيلَ: تحدثُ بأخبارِهَا بأَنَّ ربَّكَ أوحى لأَنَّ التحديثَ يستعملُ بالباءِ وبدونِا وأَوْحَى لَها بمعنى أَوْحَى إليَها.
{يَوْمَئِذٍ} أيْ يومَ إذْ يقعُ ما ذُكِرَ {يَصْدُرُ الناس} من قبورِهم إلى موقفِ الحسابِ {أَشْتَاتًا} متفرقينَ بحسبِ طبقاتِهم بيضِ الوجوهِ آمنينَ وسودِ الوجوهِ فزعينَ كما مرَّ في قوله تعالى فتأتونَ أفواجاٍ وقيلَ: يصدرُون عن الموقفِ أشتاتًا ذاتَ اليمينِ إلى الجنةِ وذاتَ الشمالِ إلى النارِ {لّيُرَوْاْ أعمالهم} أي أجزيةَ أعمالِهم خيرًا كانَ أَوْ شرًا وقرئ ليَروا بالفتحِ وقوله تعالى: {فَمَن يَعْمَلْ مِثْقال ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ وَمَن يَعْمَلْ مِثْقال ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ} تفصيلٌ ليرَوا وقرئ يُرَه والذرةُ النملةُ الصغيرةُ وَقيلَ ما يرى في شُعاعِ الشمسِ منَ الهباءِ وَأيًا مَا كان فمَعنى ما يعادلُها منْ خيرٍ وشرَ إما مشاهدةُ جزائِه فَمَنِ الأولى مختصةٌ بالسُّعداءِ والثانيةُ بالأشقياءِ كيفَ لا وحسناتُ الكافرِ محبطةٌ بالكفرِ وسيئاتُ المؤمنِ المجتنبِ عن الكبائرِ معفوةٌ وما قيلَ: مِنْ أن حسنةَ الكافرِ تؤثرُ في نقصِ العقابِ يردُّه قوله تعالى: {وَقَدِمْنَا إلى مَا عَمِلُواْ مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاء مَّنثُورًا} وأما مشاهدةُ نفسِه من غيرِ أنْ يعتبرَ مَعَهُ الجزاءُ ولاَ عدمُه بلْ يفوضُ كلٌّ منَهما إلى سائرِ الدلائلِ الناطقةِ بعفوِ صغائرِ المؤمنِ المجتنبِ عنِ الكبائرِ وإثابتِه بجميعِ حسناتِه وبحبوطِ حسناتِ الكافرِ ومعاقبتِه بجميعِ معاصيهِ فالمَعْنى ما رُوِيَ عنِ ابنِ عباسٍ رضيَ الله عنهُما: «ليسَ منْ مؤمنٍ وَلاَ كافرٍ عملَ خيرًا أو شرًا إلا أراهُ الله تعالى إيَّاهُ أما المؤمنُ فيغفرُ له سيئاتِه ويثيبُه بحسناتِه وأما الكافِرُ فيردُّ حسناتِه تحسرًا ويعاقبُه بسيئاتِه». اهـ.

.قال السمرقندي: في الآيات السابقة:

قوله تعالى: {إِذَا زُلْزِلَتِ الأرض زِلْزَالَهَا}
وذلك أن الناس، كانوا يرون في بدء الإسلام، أن الله تعالى لا يؤاخذ بالصغائر من الذنوب، ولا يعاقب إلا في الكبائر، حتى نزلت هذه السورة وقال: {فَمَن يَعْمَلْ مِثْقال ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ وَمَن يَعْمَلْ مِثْقال ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ} وذكر أهوال ذلك اليوم، وبين أن القليل في ذلك اليوم، يكون كثيرًا فقال: {إِذَا زُلْزِلَتِ الأرض زِلْزَالَهَا} يعني: تزلزلت الأرض عند قيام الساعة، وتحركت واضطربت، حتى يتكسر كل شيء عليها.
ويقال: سئل النبي صلى الله عليه وسلم، عن قيام الساعة، فنزل وبين متى يكون قيام الساعة فقال: {إِذَا زُلْزِلَتِ الأرض زِلْزَالَهَا} يعني: تزلزلت الأرض، وتحركت تحركًا وهو كقوله: {ثُمَّ يُعِيدُكُمْ فِيهَا وَيُخْرِجُكُمْ إِخْرَاجًا} [نوح: 18] والمصدر للتأكيد.
قوله تعالى: {وَأَخْرَجَتِ الأرض أَثْقالهَا} يعني: أظهرت ما فيها من الكنوز والأموات {وَقال الإنسان مَا لَهَا} يعني: يقول الإنسان الكافر: ما لها يعني: للأرض على وجه التعجب.
{يَوْمَئِذٍ تُحَدّثُ أَخْبَارَهَا} يعني: تخبر الأرض، بكل ما عَمِلَ عليها بنو آدم، من خير أو شر تقول: للمؤمنين صلى على، وحج واعتمر، وجاهد، فيفرح المؤمن، وتقول للكافر أشرك وسرق، وزنى وشرب الخمر، فيحزن الكافر فيقول: ما لها؟ يعني: ما للأرض تحدث بما عمل عليها؟ على وجه التقديم والتأخير، ومعناه: يومئذٍ تحدث أخبارها {وَقال الإنسان مَا لَهَا}.
يقول الله تعالى لمحمد صلى الله عليه وسلم {بِأَنَّ رَبَّكَ أوحى لَهَا} يعني: أن الأرض تحدث، بأن ربك أذن لها في الكلام، وألهمها {يَوْمَئِذٍ يَصْدُرُ الناس أَشْتَاتًا} يعني: يرجع الناس متفرقين، فريق في الجنة، وفريق في السعير فريق مع الحور العين يتمتعون، وفريق مع الشياطين يعذبون، فريق على السندس والديباج، على الأرائك متكئون، وفريق في النار، على وجوههم يُجَرُّونَ.
اللهم في الدنيا هكذا كانوا فريقًا حول المساجد والطاعات، وفريق في المعاصي والشهوات، فذلك قوله: {يَوْمَئِذٍ يَصْدُرُ الناس أَشْتَاتًا} يعني: فِرقًا فِرَقًا.
{لّيُرَوْاْ أعمالهم} يعني: ثواب أعمالهم، وهكذا.
كما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم، أنه قال: «مَا مِنْ أحد يَوْمَ القِيَامَةِ، إلاَّ وَيَلُومُ نَفْسَهُ، فَإِنْ كَانَ مُحْسِنًا يَقول: لِمَ لَمْ أزدَدْ إحسانًا، وَإِنْ كَانَ غَيْرَ ذَلِكَ، يَقول: أَلاَ رَغِبْتُ عَنِ المَعَاصِي؟» وهذا عند معاينة الثواب والعقاب.
وقال أبيّ بن كعب: الزلزلة لا تخرج إلا من ثلاثة، إما نظر الله تعالى بالهيبة إلى الأرض، وإما لكثرة ذنوب بني آدم، وأما لتحرك الحوت، التي عليها الأرضون السبع، تأديبًا للخلق وتنبيهًا. اهـ.

.قال الثعلبي:

سورة الزلزلة:
{إِذَا زُلْزِلَتِ}
حُرّكت الأرض حركة شديدة لقيام الساعة {زِلْزَالَهَا} تحركها وقراءة العامّة بكسر الزاي.
وأخبرني ابن فنجويه قال: حدّثنا الباقرجي قال: حدّثنا عبد اللّه بن محمد بن ياسين البغدادي قال: حدّثنا جميل بن الحسن قال: حدّثنا أحمد بن موسى صاحب اللؤلؤ قال: سمعت عاصم الجحدري يقرأ: {إِذَا زُلْزِلَتِ الأرض زِلْزَالَهَا} الزاي مفتوحة وهو مصدر أيضًا كالوسواس والقلقال والجرجار، وقيل: الكسر المصدر والفتح الاسم.
{وَأَخْرَجَتِ الأرض أَثْقالهَا} موتاها وكنوزها فيقلبها على ظهرها {وَقال الإنسان مَا لَهَا} وقيل: في الآية تقديم وتأخير تقديره {يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبَارَهَا} فيقول الإنسان: ما لها.
قال المفسّرون: تُخْبر الأرض بما عمل عليها من خير أو شرّ فتقول للمؤمن يوم القيامة: جدّ على وصام وصلى واجتهد وأطاع ربّه، فيفرح المؤمن بذلك، وتقول للكافر: شرك على وزنى وسرق وشرب الخمر فيوبّخ بالمشهد، وتشهد عليه الجوارح والملائكة مع علم اللّه سبحانه به حتى يودُّ أنه سيق إلى النار مما يرى من الفضوح.
حدّثنا أبو بكر محمد بن عبدوس المزكى إملاءً قال: أخبرنا أبو نصر محمد بن حمدويه بن سهل المروزي قال: حدّثنا عبد اللّه بن حمّاد الآملي قال: حدّثنا سعيد بن أبي مريم قال: حدّثنا رشد بن سعد قال: حدّثنا يحيى بن أبي سلمى عن أبي حازم عن أنس بن مالك أن رسول اللّه صلى الله عليه وسلم قال: «إن الأرض لتخبر يوم القيامة بكل عمل عُمِلَ على ظهرها قال: وتلا رسول اللّه صلى الله عليه وسلم: {إِذَا زُلْزِلَتِ الأرض زِلْزَالَهَا}. حتى بلغ {يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبَارَهَا}. قال: أتدرون ما أخبارها؟ إذا كان يوم القيامة أخبرت بكل عمل عُمِلَ على ظهرها».
وأخبرني ابن فنجويه قال: حدّثنا علي بن الحسن بن مطرف الجراحي قال: حدّثنا أبو عيسى عبد الرحمن بن عبد اللّه الأنباري قال: حدّثنا أحمد بن إبراهيم قال: حدّثنا خالد بن يزيد العمري قال: حدّثنا شعبة عن يحيى بن سليم أبي بلج عن سعيد بن المسيّب عن أبي هريرة أن النبي عليه السلام ذكر هذه الآية: «{يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبَارَهَا}. فقال: تدري ما أخبارها؟ قال: اللّه ورسوله أعلم. قال: فإن أخبارها أن تشهد على كلّ عبد وأَمة بما عمل على ظهرها من شيء، تقول: عمل على ظهري كذا وكذا، أو حملتُ على ظهري كذا وكذا يوم كذا لكذا وكذا، فهذه أخبارها».
وفي حرف ابن مسعود يومئذ تنبيُ أخبارها. أخبرنا عبد اللّه بن حامد قال: أخبرنا المطرفي قال: حدّثنا بشر بن مطر قال: حدّثنا سفيان عن عبد اللّه بن عبد الرحمن بن أبي صعصعة عن أبيه وكان أبوه يتيمًا في حجر أبي سعيد الخدري قال: قال لي يعني أبا سعيد: يا بُنيَّ إذا كنت في البوادي فارفع صوتك بالأذان فإني سمعت النبيّ صلى الله عليه وسلم يقول: «لا يسمعه جنّ ولا إنس ولا حجر إلاّ يشهد له».
أخبرنا عبد اللّه بن حامد قال: حدّثنا محمد بن عامر السمرقندي قال: حدّثنا ابن الحسين قال: حدّثنا علي بن حميد عن إبراهيم عن أبيه قال: رأيت أبا أُميّة صلى في المسجد الحرام المكتوبة، ثم تقدم فجعل يصلي هاهنا وهاهنا، فلمّا فرغ قلت: يا أبا أُميّة ما هذا الذي رأيتك تصنع؟ قال قرأت هذه الآية: {يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبَارَهَا} فاردت أن تشهد لي يوم القيامة.
{بِأَنَّ رَبَّكَ أوحى لَهَا} أي أمرها بالكلام واذن لها فيه، قال العجاج يصف الأرض:
أوحى لها القرار فاستقرّت ** وشدّها بالراسيات الثُبَّت

أي أمرها بالقرار.
وقال ابن عباس والقرظي وابن زيد: أوحى إليها. ومجاز الآية: يوحي اللّه إليها.
{يَوْمَئِذٍ يَصْدُرُ الناس أَشْتَاتًا} عن موقفِ الحساب، أشتاتًا: متفرقين فآخذٌ ذات اليمين إلى الجنة، وآخذ ذات الشمال إلى النار {لِّيُرَوْاْ أَعْمَالَهُمْ} قيل: في هذه الآية تقديم وتأخير تقديرها {يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبَارَهَا بِأَنَّ رَبَّكَ أوحى لَهَا يَوْمَئِذٍ يَصْدُرُ الناس أَشْتَاتًا} وقراءة العامّة ليُروا بضم الياء.
وقرأ الحسن والأعرج بفتح الياء وروي ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم.
{فَمَن يَعْمَلْ مِثْقال ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ} أي يرى ثوابه {وَمَن يَعْمَلْ مِثْقال ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ}.
قال ابن عباس: ليس مؤمن ولا كافر عمل خيرًا ولا شرًا في الدنيا إلاّ أراه اللّه إياه، أما المؤمن فيرى حسناته وسيّئاته، فيغفر له سيئاته ويثيبه لحسناته، وأما الكافر فتردُ حسناته ويعذبه بسيّئاته.
وقال محمد بن كعب في هذه الآية: فمن يعمل مثقال ذرة خيرًا من كافر يرى ثوابه في نفسه وأهله وماله وولده حتى يخرج من الدنيا وليس له عند اللّه خير، ومن يعمل مثقال ذرة شرًّا من مؤمن يرى عقوبته في الدنيا في نفسه وأهله وماله وولده حتى يخرج من الدنيا، وليس له عند اللّه شر.
ودليل هذا التأويل ما أخبرنا عقيل أنّ أبا الفرج أخبرهم عن ابن جرير قال: حدّثني أبو الخطاب الجنائي قال: حدّثنا الهيثم بن الربيع قال: حدّثنا سماك بن عطية عن أيوب عن أبي قُلابة عن أنس قال: «كان أبو بكر يأكل مع النبي عليه السلام فنزلت هذه الآية: {فَمَن يَعْمَلْ مِثْقال ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ وَمَن يَعْمَلْ مِثْقال ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ} فرفع أبو بكر- رضي اللّه عنه- يده وقال: يا رسول اللّه أنّى أخبر بما عملت من مثقال ذرة من شر؟ فقال: يا أبا بكر ما رأيت في الدنيا مما تكره فبمثاقيل ذرّ الشرّ، ويدّخر اللّه لك مثاقيل ذر الخير حتى تُوفّاه يوم القيامة».
له عن محمد بن جرير قال: حدّثني يونس بن عبد الأعلى قال: أخبرنا بن وهب قال: حدّثني حُيي بن عبد اللّه عن أبي عبد الرحمن الجيلي عن عبد اللّه بن عمرو بن العاص أنه قال: «نزلت {إِذَا زُلْزِلَتِ الأرض زِلْزَالَهَا} وأبو بكر الصديق رضي اللّه عنه قاعد فبكى حين أُنزلت، فقال له رسول اللّه عليه السلام: ما يبكيك يا أبا بكر؟ قال: أبكتني هذه السورة، فقال له رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم: واللّه لو أنكم لا تُخطِئُونَ ولا تُذْنِبونَ ويغفر اللّه لكم لخلق اللّه أُمّةً يخطئون ويذنبون فيغفر لهم».
وقراءة العامّة يره بفتح الياء في الحرفين.
وقرأ خالد بن نشيط وعاصم الجحدري بضم اليائين لقوله: {لِّيُرَوْاْ}.
قال مقاتل: نزلت هذه الآية في رجلين وذلك أنه لما نزل {وَيُطْعِمُونَ الطعام على حُبِّهِ} [الدهر: 8] كان أحدهما يأتيه السائل فيستقلّ أن يعطيه التمرة والكسرة والجوزة ونحوها ويقول: ما هذا بشيء إنّما نُؤجر على ما نعطي ونحن نحبه يقول اللّه سبحانه: {وَيُطْعِمُونَ الطعام على حُبِّهِ} [الدهر: 8] فما أحب لنا هذا فردهُ غفران، وكان الآخر يتهاون بالذنب اليسير، الكذبة والغيبة والنظرة وأشباه ذلك ويقول: ليس على من هذا شيء إنّما وعد اللّه سبحانه النار على الكبائر، وليس في هذا إثم، فأنزل اللّه سبحانه يرغّبهم في القليل من الخير أن يعطوه، فإنّه يوشك أن يكثر، ويحذّرهم اليسير من الذنب فإنّه يوشك أن يكبر، فالإثم الصغير في عين صاحبه يوم القيامة أعلى من الجبال، وجميع محاسنه أقل في عينه من كل شيء فقال: {فَمَن يَعْمَلْ مِثْقال ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ وَمَن يَعْمَلْ مِثْقال ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ}.
سُئل ثعلبة عن الذرّة قال: إن مائة مثل وزن حبّة والذرّة واحد منها.
وقال يزيد بن مروان: زعموا أن الذرّة ليس لها وزن، ومعنى المثقال الوزن، وهو مفعال من الثقل، وقال ابن مسعود: أحكم آية في القرآن {فَمَن يَعْمَلْ مِثْقال ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ وَمَن يَعْمَلْ مِثْقال ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ} وكان رسول اللّه صلى الله عليه وسلم يسمّيها «الجامعة الفاذة»، وتصدق سعد بن أبي وقّاص بتمرتين وقبض السائل يده فقال سعد: ويحك تقبل اللّه منّا مثقال الذرّة والخردلة وكأين في هذه من مثاقيل. وتصدّق عمر بن الخطّاب وعائشة بحبة من عنب وقالا فيها مثاقيل ذرّ كُثر.
وروى المطّلب بن عبد الله عن عائشة «أن رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم قرأ في مجلس ومعهم أعرابي جالس فقال رسول اللّه عليه السلام: {فَمَن يَعْمَلْ مِثْقال ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ وَمَن يَعْمَلْ مِثْقال ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ}. فقال الأعرابي: يا رسول اللّه مثقال ذرّة؟ قال له: نعم، فقال الأعرابي: يا رسول اللّه مثقال ذرّة؟ قال له نعم، فقال الأعرابي: واسوأتاه منّا إذًا، ثم قام وهو يقولها فقال رسول اللّه عليه السلام: لقد دخل قلب الأعرابي الإيمان».
وأخبرنا عبد اللّه بن حاطب قال: أخبرنا محمد بن عامر السمرقندي قال: حدّثنا عمر بن يحيى قال: حدّثنا عبد بن حميد عن وهب بن جرير عن أبيه قال: سمعت الحسن يقول: «قدم صعصعة عمّ الفرزدق على النبي عليه السلام فلمّا سمع {فَمَن يَعْمَلْ مِثْقال ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ وَمَن يَعْمَلْ مِثْقال ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ} قال: حسبي ما أبالي ولا أسمع من القرآن غير هذا».
وقال الربيع بن صبيح: مرّ رجل بالحسن وهو يقرأ هذه السورة، فلمّا بلغ آخرها قال: حسبي قد أتممت الموعظة فقال الحسن: لقد فقه الرجل.
أنشدنا أبو القاسم الحسن بن محمد المفسّر قال: أنشدني أبو الفضل أحمد بن محمد بن حمدون الفقيه قال: أنشدني أبو بكر أحمد بن محمد بن إبراهيم الحواربي بواسط:
إنّ من يعتدي ويكسب إثمًا ** وزن مثقال ذرّة سيراه

ويجازى بفعله الشر شرًّا ** وبفعل الجميل أيضًا جزاه

هكذا قوله تبارك ربّي ** في إذا زلزلت جلّ ثناه

. اهـ.